أيّها الموتُ، مرحباً بك! ستّ قصائد للشاعرِ البلجيكي إيدي فان فليت ترجمة عبد الرحمن الماجدي

Eddy van Vliet

وُلدَ الشاعرُ البلجيكي إيدي فان فليت ( (Eddy Van Vlietفي الحادي عشر من شهر أيلول عامَ 1942 في مدينة أندفيربن Antwerpen كبرى مدن بلجيكا. عاشَ طفولتَه متعلقاً بوالدهِ الذي هجرَ المنزلَ عامَ 1954 بلا عودةٍ، فغيّرتْ، تلكَ المغادرةُ، حياةَ الصبي الذي سيتذكّرُ، طوالَ عمرهِ، شعراً ودمعاً، مغادرةَ إبيهِ، وينتظرُ عودتهُ المستحيلة.

“في ذلكَ الصباح
مضى من المطبخِ الى بابِ الشارعِ،
ولم يعدْ أبداً”
         من قصيدة “وداع أبي”.

يُعدُّ إيدي فان فليت من رواد الرومانسيةِ الجديدة في بلجيكا. وقد عُرفَ محامياً وشاعراً، جامعاً بين الواقعِ المعاشِ والحلمِ، مولياً الشعرَ وقتَه الأكثر. تأثّرَ بالشاعرِ السويديّ توماس ترانسترومر الذي كانَ يشتركُ معهُ في تصويرِ ما يعتملُ بذاتهِ من المنسيِّ والثانويِّ والبعيدِ عنِ المتناولِ ودمجهِ بالصادمِ والمباشرِ والمعاشِ، والعملُ، جاهداً، لنسيانِ الماضي ثم  استحضارِهِ في ذاتِ الآن.
يقسّمُ النقادُ شعرَه لثلاثِ مراحلَ زمنيةٍ: مرحلةُ الرومانسيّةِ والابتعادِ عنِ الواقعِ؛ خاصةً في كتبهِ الأولى، ثمَّ مرحلةُ الواقعيّةِ والنهلِ من تفاصيلِها. وتلتها مرحلةُ الحزنِ ومجاورةِ شبحِ الموتِ والالحاحِ على الذاكرةِ ضدَّ النسيانِ واستذكارِ أيّامه معَ أبيهِ التي طغتْ على سنواتِ حياتهِ الأخيرةِ مكتملةً بموتِ الأب.
تعلّق الشاعر بأبيه لهذا الحدّ الأليم كان بدافع توظيفه، لاشعورياً، كموضوعٍ شعري ميّزه وقد برع به الى حدّ بعيد. فغياب الأب لم يكن بسبب وفاة أو سفرٍ بعيد أو مرضٍ مميت، بل كان طلاقا نابعا من عدم انسجام بين زوجين لم يرغبا، أو لم يرغب أحدهما،الى أن يعيشا زواجاً فاشلاً، فكانت مغادرة الزوج- الأب التي كان وقعها الأكثر إيلاماً على حياة الأبن
صدرَ لهُ العديدُ من الكتبِ والمختاراتِ بدأها بكتابِ “أغنيتي” عامَ 1964 وختمها بكتابهِ الأشهرِ “الأب” عامَ 2001. من بقيّةِ كتبهِ: “مبارزة”، “المحكمة”، “الحزن الكبير”، “ما بعدَ قوانينِ الوَداعِ والخريف”، “سنواتُ ما بعدَ آذار” ، “الشعرُ فعلُ تأكيد”، “زجاج”، “الفناء”، “كولومبوس عبثاً”، “لصُّ المستقبل” و”كما لو في هواءِ اللونِ الطلق”. بالاضافةِ الى كتبٍ مشتركةٍ ومختارات، نُشرت معظمها، أو أعيدَ نشرُها، في هولندا التي كتبَ شعرَه ونثرَه بلغتِها التي يتحدّثها سكّانُ الاقليمِ الفلاماني، شمالَ بلجيكا، لغةً أولى، حيثُ وُلدَ في مدينةِ أنتفيربن؛ ثاني كبرى مدنِ المملكةِ البلجيكيّة.
طغى غيابُ الأبِ على الكثيرِ من شعرهِ الذي ظلّ يراهُ تعويذةً في واقعٍ قاسٍ يجعلُ من الشاعر،ِ ربّما، كائناً من عالمٍ غابرٍ، كما كانَ يؤكدُ الشاعر نفسه.
عكفَ على إنجازِ ملحمةٍ شعريةٍ طويلةٍ بعنوانِ “الأب” خصّصها لوالدِه ومحبّتهِ لهُ ولوعةِ غيابِهِ عنِ الأسرةِ التي ظلّتْ محفورةً في روحهِ، لكنَّ وفاة الأبِ قُبيلِ الانتهاءِ من قصيدتهِ الطويلةِ تسببتْ بانتكاسةٍ للشاعرِ فلحقَ بوالدهِ بعدَ أقلِّ منْ عامٍ، مثقلاً بورمِ في الدماغ، بُعيدَ فترةٍ وجيزةٍ من احتفالهِ بعيدِ ميلادِهِ الثاني والستّينِ في الخامس من شهر تشرين الثاني عام 2002.
نالَ فان فليت جائزةَ يان كومبرت عامَ 1975 في هولندا عنْ كتابهِ “الحزن الكبير”، ونالَ جائزةَ الدولةِ للشعرِ في بلجيكا عامَ 1989.
هنا ترجمةٌ لستِّ قصائدَ لهُ تُنشرٌ للمرّةِ الأُولى عربياً:

 

 الموت

 

أيّها الموتُ.
لا تخفْ!
لا تتحيّرْ قبالةَ بابي.
ادخلْ.

إقرأ كتبي.
لكَ حضورٌ في تسعةِ أعشارِها.
لستَ غريباً.

لا تكذبْ،
وتبقيني منخدعاً،
حيثُ لا يُسمّى الداءُ باسمه.
لا تضجعني على سريرٍ بينَ شيوخٍ كأطفالٍ لا يفقهونَ ما يقولون.
لا تبدّدَ المالَ من أجلِ ساعاتٍ لا طائلَ منها في مصحّاتٍ أنيقة.

امسحْ قدميكَ،
وادخلْ.
مرحباً بك.

 

وداعُ أبي

أريدُ فقطْ أنْ أقولَ إنّي لمْ أكنْ أعرفُ،
لمْ أكنْ أرى بوضوحٍ،
مثلما بدا لاحقاً.

بوابةُ الحديقةِ تحتاجُ تزييتاً،
ثغراتُ السياجِ لا بُدّ من سدّها الآن،
وإزالة رائحةِ صابونِ الحلاقة.

قصيرَ الشَّعرِ،
عاشقَ هوميروسَ،
ملتهمَ عرانيسِ الذرةِ،
الفاتنَ، جالبَ العطرِ من فرنسا.
أرَزَمَ أصدقاءُ العطلةِ حقائبَهم أيضاً؟

لقد كتبتُ الكثير.
في ذلكَ الصباحِ
مضى منَ المطبخِ الى بابِ الشارعِ،
ولم يعدْ أبداً.

 

 المدينة

المدينةُ مكتظّةٌ بأماكنَ حرمْتني منها.
مكتظّةٌ بخطىً مشتركةٍ،
ضحكٍ مشتركٍ،
استجارتْ بالاحلامِ، ولو اقتضى الأمرُ إمساكَ الحبِّ بندقية لحمايتها.

أخبرْ ساقيَّ كيفَ يتوجّبُ عليهما الهربُ ممّا ينتميانِ إليه،

اخبرهما، هُما لا يصدّقانِ أنَّ المسارحَ أُحرقتْ،
الطاعونَ فشا في المطاعم،
المدرجّاتِ ذهبتْ معَ الريح،
الفنادقَ أغلقتْ،
والفناءاتِ هُدّمتْ.

مثلما أفكّرُ بانحناءة رأسي متقيّاً المطرَ،
سأنسى ما حُرمتُ منه

 

عاشق

هكذا هوَ الأمرُ، هكذا كانَ، وهكذا سيكون.
مواعيدُ لقاءاتٍ في المقاهي بيومِ إغلاقها.
انتظارٌ على الجهاتِ الخطأِ من الجسور.
بينَ الابهامِ والسبّابةِ، مثلُ رمادٍ محترقٍ، رقمُ هاتفٍ مغلوط.
الحدائقُ بليلةٌ، الفنادقُ مكتظّةٌ وباريسُ بعيدةٌ جدّاً.
الحبُّ أخطاءٌ مكوّمة.

كلماتٌ خرقاءُ، متجاهلةً قوانينَ الذوقِ والعقلِ،
تريدُ الكتابةَ، بشغفٍ، من مدينةَ اللقاءِ الأوّلِ،
ثمّة خريطةٌ، دُوّنتْ عليها، بالكادِ، قبلةٌ،

 

 الجوّال

يلهثُ الجوّال.
يغادرُ لا يتركُ شيئاً،
يعرفُ كيفَ يُبقي على كلِّ شيء

يمضى برحلتهِ سنواتٍ طوال.
هادئاً، كمنْ يرشّ الغبارَ ماءً، يواصلُ الذكريات.

كتعاقبِ مشاهدِ الطبيعةِ،
يرى الجميعَ، تتابعاً، عائدين.

إلاّ عودتهُ لذاتهِ، لا يراها.

 

 أبي

يا أبي،
تعرَّ،
باستطاعتكَ الآنَ.
أرني ما فعلهُ الزمانُ،
مذْ جلسنا في الحمّامِ
ولمحتُ قطراتِ الماءِ تلامسنا معاً.

لا تخجلْ.
لكلينا الهيكلُ ذاته،
العظامُ، الظهرُ، الاظفارُ وما لا يُحصى من الإيماءات.

لا أريدُ الانتظارَ سبعاً وعشرينَ سنةً
لأرى كيفَ تتمدّدُ بقعُ العمرِ،
يتهدّلُ الجلدُ،
والأوردةُ تتفجّر.

أرني، ما الذي يتبقّى
حينَ تنطفئ جذوةُ الحبّ.
أخبرني بأسماءِ النساءِ لنبتهجَ صاخبين.

 

شاعر ومترجم عراقي، هولندا
[email protected]

SHARE