
كنت سائرة على طول شارع بوشكين في يوم ربيعي مشرق من النوع الذي نصح الكاتب الأوديسي ألكساندر كوپرين زوار المدينة أن يتجنبوه قائلا “ان رائحة زهر الأكاسيا يمكن أن تدفع الزوار الجدد الى الوقوع في الحب والى أن يقوموا بأفعال حمقاء كأن يتزوجوا مثلا”. عبرت شارع بونين المسمى على أسم كاتب القصة القصيرة الذي حاز على جائزة نوبل للآداب (إيڤان بونين)، ومن ثم شارع زوكوفوسكوغو الذي يحمل اسم الشاعر الرومانسي الذي يقال انه كان معلم پوشكين الخاص.
قرب دار الأوبرا هناك لافتة ذهبية اللون كتب عليها «متحف أوديسا الأدبي”. يقع الأدباء دائما في غرام المدن. ولكن منذ أن قضى بوشكين هنا ثلاثة عشر شهرا عام 1823، أضحت أوديسا مدينة متيمة بكتابها. في متحف أوديسا الأدبي- الذي يقع في قصر متهاو في وسط المدينة والذي هو واحد من اكبر المزارات من هذا النوع في العالم- بوسع الأدلاء ان يعلموك عن عدد الأيام التي قضاها كاتب ما في المدينة (تشيخوف الذي صرف نصف راتبه على بوظة أوديسا زار المدينة أربع مرات وقضى ما مجموعه 16 يوما فيها)، وأن يخبروك أي فصل من أهم أعماله كتب أديب ما حين كان مقيما في أوديسا (هنا أكمل بوشكين الفصل الثاني ونصف الفصل الثالث من روايته «أوجين أونيجن” ، وعلى الرغم من مزاعم راجت بأن بوشكين ابتدأ كتابة روايته تلك في أوديسا فان الصحيح هو ان بوشكين اعادة كتابة الفصل الاول هناك وهذا لا يعتد به). بوسع أولئك الادلاء ان يخبروك أيضا منْ مِن الكتّاب أحرق مخطوطات كتبها في أوديسا (أحرق غوغول معظم الجزء الثاني من روايته «أرواح ميتة” عندما عاد الى موسكو بعد قضاء فصل الشتاء في أوديسا) وأن يخبروك زوجة منْ من الكتّاب قد تكون من أوديسا (فيرا زوجة نابوكوف) ومن من الكتاب العظام مر بالمدينة لكنه لم يعرج عليها في نثره (نابوكوف من الممكن، تولستوي بالتأكيد)، ومن كتب عن أوديسا في رواياته دون ان يزورها قط (جول فيرن، آرثر كونان دويل، بلزاك)، ومن كتب في رسالة الى صديق عن نيته زيارة المدينة لكنه لم يفعل (دوستويفسكي). وليست تلك إلا أخبارا عارضة: فغرف المتحف العشرون تقدم 300 كاتب لهم علاقة بطريقة او بأخرى بهذه المدينة الواقعة على البحر الأسود والتي كانت ذات يوم مدينة متلألئة وعاصمة ثالثة للامبراطورية الروسية.


ان متحف الأدب في أوديسا هو من بنات أفكار نيكيتا بريغين وهو ضابط سابق في الكي جي بي وهو رجل أحمر الشعر يعشق الأدب والخمر. ولقد كان المتحف الأدبي الذي فكر به عام 1977. مشروعا في غاية الصعوبة. في ذلك الزمن، كان مبنى المتحف مجرد أطلال وقد جعل مناخ القمع السياسي من عملية افتتاح أي شيء أمرا مستحيلا تقريبا اللهم إلا اذا كان معرضا يتملق أدب الدعاية السياسية السوفياتية. إلا ان بريغين استفاد من شبكة علاقاته في جهاز المخابرات “ الكي جي بي” وواظب كثير في مسعاه حتى استطاع الحصول على تصريح يخوله بان يحقق حلمه بمتحف أدبي الى حقيقة واقعة. واستخدم بريغين فريقا من الفتيات الشابات المتحمسات للمشروع اللواتي جمعن الكثير من المواد للمتحف وبدأن في العمل مقابل أجر زهيد. وقد وصفت هيلينا كاراكينا، سكرتيرة المتحف للشؤون العلمية التي بدأت العمل في المتحف عام 1982، اي قبل عامين من تاريخ افتتاح المتحف للعموم نيكيتا بريغين بانه «كان شخصية فريدة، كان مغامرا. كان يحب ان يشرك في المشروع أناسا يبحثون عن مكسب روحي لا مادي.
عبرت كاراكينا الغرفة الخضراء المذهبة المخصصة لبوشكين الذي وصف أوديسا بانها «غبراء” ثلاث مرات. في يومنا هذا فان العبارة التفضيلية «غبار أوديسي” ما زالت تطالعنا على يافطات اعلانات المفروشات. ومن هناك شقت كاراكينا الطريق عبر غرف المعارض المختلفة والمرتبة حسب التسلسل الزمني والتي ما زالت على حالها منذ عام 1984. ثم توقفت في غرفة مصممة على شكل متجر للكتب من القرن التاسع عشر، وقالت «ما تشاهده في المتحف، فضلا عن الأدب، هو عقلية السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين” وأوضحت أن مصممي المتحف، وفي حركة اعتراضية خفية على النظام السوفياتي، بنوا رفوف الكتب على شكل صليب كبير. «لم يكن بوسعك التعبير علانية بل فقط عن طريق الرموز.
في غرفة تتوسطها طاولة استقبال من المحتمل ان تشيكوف جلس اليها، توجد آلة كمان مكسورة معلقة على الجدار في اشارة غير مباشرة الى قصة الكسندر كوبرين القصيرة «غامبرينوس” وشخصيتها الرئيسية ساشكا عازف الكمان الأوديسي الذي تزوره حشود من البحارة لأن بوسعه أن يعزف لحن أية أغنية من أية بلد. ويختفي ساشكا ذات مجزرة ليعود بعدها وقد كسرت كلتا يديه. وتنتهي القصة بانتصار الفن على قوى الدمار حيث ان ساشكا يحترف العزف على آلة الهارمونيكا.
بعد ذلك يأتي غوركي الذي قضى وقتا طويلا وهو يراقب عمال مرفأ أوديسا، وإخماتوفا التي ولدت في هذه المدينة وماياكوفسكي الذي وقع في حب من طرف واحد مع حسناء من أهالي أوديسا. وفي الغرفة المخصصة لـ«مدرسة أوديسا” من الكتّاب الروس في فترة العشرينيات، اشارت كاراكينا الى معرض كاتب تلو الآخر: هذا «ملك المجاز” قالت واصفة يوري أوليشا،”وهنا كاتاييف، «الرجل الذي كان بوسعه أن يوقف الزمن”،- ان كنت تود ان تتذوق طعم حبة عنب من عام 1910، فافتح أحد كتبه وسيكون بوسعك أن تفعل ذلك.” ثم اضافت قائلة،”كانت تلك فترة قاسية مات فيها الكثيرون في ريعان الشباب”.


أما إسحق بابل، أشهر أبناء أوديسا، فله معرض أصغر من معرض فيرا اينبر ابنة ابن عم تروتسكي التي نجت ومن ثم نجحت في حياتها عبر تملقها لستالين. وتقول كاراكينا عن مؤلف “الفرسان الحمر” وخالق شخصية بانيا “الملك” كريك رجل العصابات اليهودي الطيب القلب ابن حي مولدافانكا الأوديسي، “قالت لنا السلطات،”انسوا الأمر، يمكنكم وضع كل اعمال بابل مصدر فخركم الاوكراني هذا في اربع خزائن صغيرة.” ولا يوجد اي ذكر لموت بابل الذي قتلته الشرطة السرية عام 1940 اللهم الا اذا اخذت بعين الاعتبار هدية قدمتها ارملته الى المتحف وهي نظارته المبقعة والمهشمة والمعروضة وكأنها تحلق فوق كتاباته.
وفي حين ان غرف الطابق السفلي المكرسة لأدب ما بعد الحرب العالمية الثانية السوفياتي مغلقة لانه، كما اخبرتنا كاراكينا، « ليس أدبا،” فان الغرفة التالية في جولتنا كان مدخلها مسدودا بكراسي بسبب انهيار سقف تلك الغرفة (ليس لدى ذلك المتحف الحكومي ميزانية للصيانة). ولكننا عبرنا الغرفة التي تغطي جدرانها صور عمال باسمين.
مصممو المتحف الذين كانوا من المتمردين على النظام فضلوا صورا من الغولاغ (مخيمات العمل القسري) لتسليط الضوء على التناقض في الفكر السوفياتي، وقد صفت الكتب «مثل الجنود” كانت رفوف الكتب بنية اللون فيما تم صبغ أجزاء أخرى من المعرض باللون الأحمر السوفياتي. تقول كاراكينا “ان لم تكن ممن يستقرأون الرموز، فان الجدار سيبدو لك بلون أحمر رسمي، إلا ان اللون البني كان رمز الفاشية وبوضعه جنبا الى جنب مع اللون الأحمر، فكأننا نقول ان كلا النظامين متشابهين”.
ومن المعلومات المحذوفة من معرض السينما هو ان الشاعر جوزف برودسكي أتى الى أوديسا بحثا عن عمل وذلك قبل خروجه الى المنفى بفترة وجيزة- وهناك أعطاه مخرج سينمائي صديق له دور الشيوعي الصالح في فيلم عن الحرب.(بعد ان تمت ادانته حذفت معظم ان لم تكن كل مشاهده في ذلك الفيلم).
في واحدة من غرف المتحف الأخيرة والمهداة رسميا الى مؤتمر أدباء السبعينيات الذي عقد في اسبانيا، فان مصممي المتحف تمادوا تقريبا في تمردهم. تخبرنا كاراكينا فيما هي تقف تحت آلة كاتبة من الطراز القديم تشبه جمجمة الموت، «أتى رجال الكي جي بي وقالوا لنا، «ماذا تقصدون بالأطار الأحمر والحبال السوداء وكأنها حبال مشنقة؟”. تقول،”عادة لا يفهم الحمقى الرموز. ولكن هؤلاء فهموا.” فأشار مصمم ذلك المعرض الى نسخة من لوحة غيرينيكا على الجدار واقنع رجال الشرطة السرية أن الحبال السود ترمز الى الموت الذي خلفته الحرب الأهلية الاسبانية، ولا علاقة لها بالواقع السوفياتي”.
تعود كاراكينا بالذاكرة وتقول،” كانت الأوضاع خطيرة عام 1983. لم تكن الأمور كزمن ستالين حيث كانوا سيرسلونك الى سيبيريا. ولكن كان من الممكن أن تفقد حقك بالسكن في مدينة أوديسا.
في يومنا هذا، ينظم المتحف الأدبي مهرجانات وقراءات أدبية وحفلات موسيقية وصفوف للأطفال ويؤدي دوراً هاماً في المدينة التي وصفها الشاعر الأميركي ايليا كامينسكي، وهو من مواليد أوديسا، بقوله “في تجسدها الحاضر تملك أوديسا اليوم نصبا تذكارية لأدباء موتى أكثر من الأدباء الأحياء المقيمين فيها”!
أما بوريس خراسونسكي، الشاعر المرموق وأستاذ علم النفس، فانه يقول “ان {المتحف الأدبي} من أهم مراكز الحياة الثقافية في أوديسا” وبسبب الحملة السوفياتية الممنهجة في معاداة السامية فان خراسونسكي لم يتمكن من نشر أعماله قبل سن الخمسين. ويضيف الشاعر،”كلهم اصدقائي في المتحف” ( حقق الكي جي بي معه ذات مرة بتهمة، من بين تهم أخرى، انه كان يوزع كتبا محظورة في مكتبة سرية) جالسا والبسمة تعلو وجهه في مكتبه الذي يملأه السكون والذي تغطي جدرانه الايقونات، يعبر خراسونسكي عن ندمه لانه لم يهاجر اثناء موجة الهجرة التي حصلت في العقود القليلة الماضية والتي جلبت معها نهاية اللغة الروسية باللهجة اليديشية (لهجة يهود ألمانيا) والتي كانت تسمع في شوارع أوديسا. يقول،”بالنسة لهم أنا ما زلت شابا، وبالنسبة لي هن ما زلن فتيات شابات وجميلات. مع اننا جميعا في الستينيات من أعمارنا.
وقبل أن أغادر المتحف سألت كاراكينا، التي كانت تقدم برنامجا تلفزيونيا بعنوان «الحب شئ غريب” وفيه تطرقت للحياة العاطفية لشخصيات شهيرة، ما هو الكتاب الأول الذي يجب ان اقرأه عن أوديسا؟ فأجابت: كتاب بابل «حكايات أوديسا”,
ترجمة: عماد خشان
سالي ماكغرين صحافية مقيمة في برلين. احدث ما كتبته كان عن مذكرات هتلر المزيفة.
ترجمة مختصرة عن النص الاصلي المنشور في مجلة نيويوركر، في حزيران 2013