
مولود معمري مثقف إشكالي، شجاع، عميق وصادق وروائي من مؤسسي الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية. عاش بمبادئه ومات دون أن يبدل مواقعه.
كان مولود معمري (1917-1989) مثقفا مناضلا في صفوف جبهة التحرير الجزائرية سنوات الثورة، وكان هومن كتب بعض نصوص الخطب التي قدمها وقتها وزير الإعلام في الحكومة المؤقتة الجزائرية امحمد يزيد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة للدفاع عن القضية الجزائرية العادلة.
وإذا كان مولود معمري معروفا كروائي بالدرجة الأولى من خلال نصوصه السردية الخالدة “الهضبة المنسية” المنشورة العام 1952 و” سبات العادل” 1956 و”الأفيون والعصا” 1965وهي نصوص سردية الخالدة ، إلا أن مولود معمري هوأيضا الباحث اللساني والأنتروبولوجي الذي أسس وقعَّد لمبادئ النحو الأمازيغي ، فهوإلى حد كبيريعد “سيبويه اللغة الأمازيغية”، فقد نشر كتابه المرجعي حول هذه اللغة بعنوان “نحوالأمازيغية” « Tajerrumt n’tamazight » Maspero 1976 .
وإلى ذلك فقد اهتم أيضا بمسألة ثقافة الصورة انطلاقا من إيمانه بأن الرسائل الحضارية والسياسية والتاريخية تمر بشكل أقوى وأسرع وأوسع عن طريق “الفيلم”، وثائقيا كان أوروائيا، وقد كتب نصين لفيلمين وثائقيين الأول بعنوان “فجر المحكوم عليهم بالإعدام” والذي أخرجه أحمد راشدي 1965 و”موت الليلة الطويلة” أخرجه غوثي بن ددوش 1979.

منذ فجر استقلال الجزائر العام 1962، حظيت أعمال مولود معمري بانتباه سينمائي، فنقلت إلى الشاشة الكبيرة روايتان له، وهما من أهم ما كتب على مستوى السرد وأعني بهما: رواية “الأفيون والعصا” التي كتبها بالفرنسية بعنوان « L’opium et le bâton » وصدرت العام 1965، فكان أول فيلم روائي طويل في عهد الاستقلال من إخراج أحمد راشدي وإنتاج الديوان الوطني للصناعة السينمائية ONCIC وهي مؤسسة حكومية كان ذلك العام 1970. وأما الرواية الثانية التي حولت لاحقا إلى فيلم طويل فهي “الربوة المنسية” والتي كتبها أيضا باللغة الفرنسية ونشرت العام 1952 وقد أخرج الفيلم المقتبس منها المخرج عبد الرحمن بوقرموح (1936-2013) وهوأول فيلم جزائري طويل يتم تصويره كاملا باللغة الأمازيغية، إذ به سجل مولود معمري علاقة الأدب الروائي بولادة السينما الأمازيغية، وقد شرع في إنتاج الفيلم العام 1992 ولم ينته التصوير منه إلا العام 1995.
تعد نصوص مولود معمري الروائية عامرة وغنية بالأوصاف، نصوص تنتمي إلى الكتابة بالعين، فيها الكثير من التفاصيل الدقيقة المرتبطة بالطبيعة وبالإنسان من حيث اللباس واللغة والأحاسيس وتفاصيل الجغرافيا وخصوصية الأماكن، فهو كاتب قريب من مدرسة الطبيعيين في علاقته بطبيعة الريف الجبلي القبائلي، وتكاد تكون أوصافه للطبيعة لوحات زيتية لكنها بالكلمات، كما أن توصيفاته المرفولوجية والفيزيولوجية للأشخاص مستقاة كلها من الحياة اليومية للفلاحين البسطاء في منطقة القبائل التي ينتمي إلى واحدة من قراها وهي “ثاوريرت ميمون” وهي القرية التي أنجبت مولود معمري وأنجبت أيضا المفكر محمد أركون (1928-2010).
إن تركيز مولود معمري في كتاباته السردية على تفاصيل حياة الجزائريين في منطقة القبائل بأعالي الجرجرة لا يعني مطلقا انعزاله أودفاعه عن جهوية سلبية، بل هو في ذلك كان يكتب حياة البسطاء في هذه المنطقة التي ولد وكبر فيها مثلما فعل الروائي محمد ديب (1920-2003) الذي سجل وبدقة عادات وتقاليد الأسرة الفقيرة في مدينة تلمسان في ثلاثيته “ثلاثية الجزائر: الدار الكبيرة – النول- الحريق” باللغة الفرنسية، وقد تم اقتباسها هي أيضا إلى الشاشة الصغيرة في مسلسل تليفزيوني بعنوان “الحريق” عرف نجاحا كبيرا وقد أخرجه مصطفى بديع (1927-2001).
لقد وجدت السينما في نصوص مولود معمري منجما من الصور بالألوان وبالأحجام المطلوبة ودون تشويه أو مبالغة، ووجدت أيضا في نصوصه حوارات جاهزة دون مبالغة أوتنميق أو انتفاخ لغوي، كما عثرت في نصوصه على شخوص تعبر بكل صفاء وعفوية إنسانية عن عمق الإنسان الجزائري في أحلك مفاصل الصراع التاريخي، صراع ما بين عشاق الحرية وجنودها من جهة والقوى الاستعمارية المكرسة لثقافة الاستعباد والقمع.
لقد استفاد مولود معمري كروائي يكتب نصوصا تنتمي إلى مجال التخييل ، استفاد كثيرا من ثقافته كباحث أنتروبولوجي صرف عمرا طويلا في تتبع وقراءة الظواهر التاريخية واليومية على مستويات متعددة لسانية وثقافية ورمزية.
حين عرض فيلم “الأفيون والعصا” مباشرة بعد الانتهاء منه، في قاعات العروض الجزائرية، وقتها كانت الجزائرية تملك عددا يفوق الستمائة قاعة عرض، كان الإقبال منقطع النظير، وقد حقق الفيلم نسبة مشاهدة عالية، على مستوى شباك التذاكر، نسبة مشاهدة لم تعرفها قاعات العرض قبل ذلك، ويظل واحدا من الأفلام التي سجلت حضورا في المخيال السينمائي الجزائري.
لقد صور الفيلم كما الرواية الجزائرَ في بعدها الأسطوري، حيث الحلم بالحرية والعدالة هي كلمة السر بين الجميع، وقدم الفيلم كما النص الروائي الجزائري البسيط في حياته اليومية ولكنه الكبير في حلمه وفي تطلعاته، إنه فيلم عن الإنسان ما بين الحقيقة والحلم، الفرد الذي لا يتوقف عن كسر الموانع والحواجز من أجل حريته الفردية والجماعية.
تعتبر رواية “الأفيون والعصا” لمولود معمري واحدة من الروايات الذكية التي تناولت الثورة الجزائرية بشعرية عالية، وبنظرة دقيقة بعيدا عن الأحكام الجاهزة والكتابة الصاخبة، وبعيدا عن البطولية الدونكيشوطية، ف”الأفيون” في الرواية يرمز إلى تلك “الشعارات” الفارغة التي امتلأت بها الأيديولوجية الكولونيالية، التي كانت تحاول بثها فرنسا الاستعمارية داخل أوساط الأهالي محاولة إنقاذ وجودها في الربع الأخير من مباراة التاريخ، والتي كانت تدعي فيها بأنها المدافعة عن العدالة ما بين جميع ساكنة المستعمرة “الجزائر” التي كانت تعتبر مقاطعة فرنسية، وأن لا فرق بين الأوروبي والأمازيغي والعربي، وحين لا تنفع الأيديولوجيا والبروباغوندا في تهدئة الرأي العام تخرج فرنسا “العصا” وهي الملاحقات والمنع والنفي والتعذيب والتجويع.
رواية” الأفيون والعصا” هي رواية الأسرة، حيث تدور الأحداث أساسا حول ثلاثة إخوة هم بشير لزرق وهو طبيب خريج جامعة باريس، وأما الأخ الثاني بلعيد فهومعلم اللغة الفرنسية يعيش حالة من الانفصام ما بين صداقة الفرنسيين والتعاطف مع الثوار وأما الأخ الأصغر “علي” فهو منخرط كلية في صفوف جبهة التحرير الوطني ضد القوى الاستعمارية ويحلم برفع العلم الجزائري على أسوار العاصمة، والأسرة بهذه الصورة تمثل الجزائر إبان الثورة التحريرية.
وذكاء الرواية وهو ما حافظ عليه أيضا الفيلم الذي أخرجه أحمد راشدي يقوم على تقديم صورة موضوعية وجريئة عن الثورة الجزائرية، إذ لم تكن هذه الحرب ما بين الفرنسيين والجزائريين بل كانت ما بين المستعْمِرين والمستَعْمَرين، إذ أن هناك من الأهالي من اشتغل مع الاستعمار وفي المقابل هناك من الفرنسيين من كان إلى جانب الثورة الجزائرية.
لقد نجح فيلم “الأفيون والعصا – ثالة” لأحمد راشدي لعالمين اثنين، أولهما: اختيار رواية ذكية وقوية وشاعرية حتى في عنفها وهي “الأفيون والعصا” لمولود معمري، وثانيهما: اختياره أهم وجوه التمثيل المسرحي والسينمائي الجزائري في الستينات والذين كانوا هم أنفسهم جزء من الثورة الجزائرية، فغالبيتهم كانوا مناضلين في صفوف الثورة التحريرية، كمصطفى كاتب، وسيد علي كويرات، ومحيي الدين بشطارزي، والعربي زكال وحسن الحسني إلى جانب الممثل الفرنسي الكبير جان لوي ترينتينيان.
حين عرض الفيلم ساعد بقوة في الترويج للرواية بين جمهور واسع من القراء وبالمقابل قدمت شهرة الرواية واسم الروائي مولود معمري كثيرا من الدعم المعنوي للفيلم وحقق له أفق استقبال متميز.
هذا المقال كتب خصيصا لملف مجلة بانيبال ونشر بالانكليزية في ملف المجلة
عن الأدب والسينما، العدد 62 صيف 2018
ونشر بالعربية في جريدة الحياة بالاتفاق مع المجلة، ونعيد نشره هنا بالاتفاق.
أمين الزاوي (روائي وأكاديمي – الجزائر)