أحلامها مدفونةٌ في قاع النهر، قصة للكاتب العراقي عمّار كشيّش

عمار كشيش

قالت‎ ‎‏وحيدة الطموحة:‏
ــ الماء علقمٌ هنا‏
الليلُ سائلٌ اسود يأكلُ جسدي هنا ‏
بعد لحظة صمت استطردت:‏
ــ رجل سينقذني، محلّهُ هنالك في ركن السوق، ين أكياس الحنطة، ‏والشعير، والدخن، يتصبب عرقا ‏وضوءً.‏
يعرف قنطرةً سريةً تفضي الى بغداد.‏
لن يخدعني، انا متأكدة مثل ما ارى هذا الوشم فوق الخد.
مثل لسعة الاغنية الغجرية التي تنمو في حنجرتي‏.
رافقيني….. لن تخسري شيئاً.
خدك سيحمرُ ثانيةً وتضحك ُالشجرة.

‏×‏

 في اليوم الثاني ايضا سردت وحيدة شيئاً من تفاصيل مشروعها:
ــ هذا النهر رغم جماله، لن يروي قلبينا، لا يوجد سوى نهر ‏في بغداد، يضحك لنا ويسقينا، ‏ويمنحنا ملابساً للسباحة‏.
ها …………ما قولك يا إسكَيوه؟
‏ـــ………………
قالت وحيدة:
ـــ سأعود للبيت وغدا نلتقي ربما تبشّرينني بالهجرة ‏
إسكَيوه عينك تلمعُ ‏ودمعاتك يأكلن جسدك من الداخل.
العشق حربة تترصد صدرك، الناصع البياض‏، واللذة دخان الموقد المتلاشي .

×

لملمت إسكَيوه خرقها البيضاء، الناعمة التي تشبه قماش الناموسية، ‏ووضعتها في قِدْرها الذي كان مليئا بالقيّمر وقِدْرها‏ الثاني الذي كان مليئا بالجبن، أو الزبدة، وغادرت حافة النهر التي ‏تشبه حافة صندوق عميق ما ان يسقط منها احد سيهلك .
مرت في ‏ذاكرتها ‏قصيدة ٌ قصيرةٌ مختلفة، محلّقة لايستسيغها مجتمعها. ‏قصيدة تُغنى سراً. ‏
ــ ايتها القصيدة المحلّقة ‏انا لا ارفضكِ مثلما ‏يرفضك الاخرون، لكن اضحي ‏بحلمي مضطرة، ‏ ‏مضطرة آه آه ثمن التضحية جسد ينحدر،  ويتمدد مشلولاً فوق سرسر الرماد.‏

‏×‏

قالت إسكَيوه ــ يا أمي اليوم تأخرت عليك ‏.
قالت الام الممددة: لولاك لهلكت من زمان
انت الولد وانت البنت وانت السند، آه لو ‏تتزوجين واطمئن عليك

×

الليل على وشك الانتهاء، متى تنام إسكيوه؟ راح قلبها يطلق اغنياتٍ ‏غزلية من فــرط الوجع تحولت ‏الى مراثي!‏ قلبها يغني، فمها صامت.
اذا غنى فمها ووصل الغناء الى بيت الاعمام
قال جسدها واختلط صوته الهامس، المبحوح بثوبها البنّي، المعذب هو الاخر .
ـــ ما لذي سيجري ما لذي سيجري !

‏……………………‏

الليل على وشك الانتهاء نامت إسكَيوه ‏ قليلا واستيقظت على اثر أصوات ‏الكائنات الجائعة!‏

‏……………………………. ‏

‏……………………………‏

‏ ‏

القمر الصغير، الخجول المؤاسي يخرج من آنية الجبن الناضج فجراً.
جلبت إسكَيوه الماء الساخن من الموقد ومسدت اطراف امها، غيّرت ‏ملابسها.‏
‏ ــ اليوم سيكون فراشك قرب النافذة المستديرة مثل الشمس/ الحلاوة في طبق الخوص، ربما يدخل الله ملتمعاً ‏من اجلكِ ومن اجلي أيضاً ربما.. ربما….هل يدخل مثل فارس شهم يسمح لي مبتسماً ان أمضي نحو منزل الغناء! ‏……‏
سأكون الى جانبك يا أمي.‏ ابتسمت بهدوء، كانت ابتسامتها معذية ايضا.

‏×

‏حاكت قصيدتها السرية، ‏وجمهورها جسدها، وثوبها، وشجرة في طرف المرعى:
ــ صورة الحبيب المرسومة على ورق البردي تتطاير في افق الجسد ‏أنتشي……. أنتشي‏
تعالي لي هكذا اسمعه يقول صاحب الصورة الراقصة في الافق:‏
ـــ تعالي لن تخسري ‏
‏ لكني أمزق الصورة.
أمزق صورته، ابكي سراً، أمسح دمعتي، واقتربُ من امي ممسكةً صينية ‏فوقها طاسة الماء، وطاسة ‏الحناء، وابريق البابونج الساخن.
تهمس إسكيوه قصيدتها الممنوعة ا
القمر في الآنية يبتسمُ.‏
‏ في وجهي غيمةٌ.
الرذاذ الحزين ينزل ليلاً، وفجراً في البيت وعلى حافة النهر وانا انتظرُ ‏الرزقَ من بيع الحليب الابيض ‏جداً.‏

×

قالوا: ما أجمل وجهك ‏
قلبك ناصع البياض، وبياضك شمسٌ صباحية، وبياضك خيمةٌ تجلس تحتها ‏الأم.‏ أنت الأم أم انت اِلابنة؟!

‏×‏

وحدها الان في الحقل بعيداً عن القرية. السماء تمطر بغزارة. وحدها ‏مع أغنامها. تعوم الان في ‏المطر، آن لها أن تغني، لن يسمعها ابن ‏العم، والعم، والجار، والخال.‏ حنجرتها طارت وحطت مطمئنة ًعلى شجيّرة الصفصاف في طرف الحقل. حطت على التلة قريبا من الجدول، طارت، لكن لم تستمر بالطيران مع القصيدة المختلفة المرفوضة‏.
‏ عادت الى (سردابها) او نهرها.

‏×‏

قالت وحيدة خليل في اليوم الثالث:
ـــ هذا ثوب السفر او الهروب، هل شاهدتي ورد رمان مثل هذا الورد‏. هذا العطر لن استخدمه الآن لا تخبري احداً ‏
تعالي معي.‏
‏ بيتٌ مصنوع من الماء ينتظرنا في بغداد ‏
‏ بيتٌ من الذهب ابوابه ستفتح لنا انا متأكدة ‏
تعالي معي.‏ ارجوك. لماذا انت صامتة؟
ـــ ……………. ‏
‏ـــ تكلمي
ـــ……………….
ـــ تكلمي إسكيوه
 ــ سأدفن حنجرتي تحت القصب المنتشر هنا…. سأرتدي ثوب ‏الصمت المصنوع من ‏الصوف الاسود.‏
النهر وحده سيسمع صوتي، ويدفن أشيائي الخاصة في طينه بعيداً ‏بعيداً عن الصيادين، عن العم، والخال، ‏والجار.‏

كاتب وشاعر من العراق

[email protected]

SHARE